فِي جَوفِ الزَّنْزَانَةِ المُعْتِمَةِ , كَانَ البَرْدُ قَاسِيًا وَالوَحْشَةُ تُخَيِّمُ عَليَّ وَعَلى مَكَانِي , بَعْدَ أنْ غَادَرَ جَلاَّدِي , وَهَكذَا تَسَنَّى لِي أنْ أغْرِسَ رَأسِي بَينَ رُكْبَتَيَّ وَقَدْ جَلسْتُ القُرْفُصَاءَ , تَمَامًا مِثْلَمَا تَفْعَلُ نَعَامَةٌ حَمْقَاءُ تََخشَى قَدَرَهَا , إلا أنِّي فِي قَرَارَةِ ذَاتِي كُنْتُ أكَدِّسُ حُزْنًا عَلى حُزْنٍ وأنَا أُؤمِّلُ رَسْمَ بَسْمَةٍ عَلَى شَفَتَيْ وَطَنِي المُلتَاعِ مِثلِي فِي قَادِمِ الأيَّامِ , لِذَا دَفَنْتُ مَا اعْتَرَانِي مِن شَظَايَا يَأسِي فِي أغْوَارِ نَفْسِي وَرُحْت أتَمْتِمُ تََسْبِيحًا وذِكْرًا , وبَعدَ فَتْرَةٍ طَويلةٍ أسْلمْتُ جَسَدِي النَّحيلَ المُرْتََعِشَ لِجَانِبٍ مِن أرْضِيةِ الحُجْرَةِ العَفِنَةِ المُهْتَرِئَةِ الجُدْرَانِ , غَيْرَ أنِّي مَا كِدْتُ ألامِسُ بُرُودَةَ الأرْضِ حَتَّى تَخَشَّبَتْ أوْصَالِي , واعْتَرَتْنِي قُشَعْريرَةٌ مُتَوَحِّشَةُ جَعَلَتنِي أنْتَفِضُ قَائِمًا عَلى الإثْرِ.
هَذِهِ مَشِيئَةُ القَدَرِ , مَا عَسَانِي افْعَلُ , قُلْتُ ذَلِكَ فِي سَرِيرَتِي حِينَمَا تَدَاعَت ذِكْرَيَاتِي وَآمَالِي بِخَاطِرِي : لَقَد كُنتُ أتَُوقُ لأَنْ أسْقُطَ شَهِيدًا عَلى أعْتَابِ الحُريَّة الحَمْرَاءِ .
صَمِتُّ بُرْهَةً ثُمَّ حَامَتْ حَوْلِي ذِكْرَيَاتٌ شَجِيَّةٌ انْهَمَرَتْ لهَا دُمُوعِي , وَرُحْتُ أحدِّثُ نَفْسِي قَائِلاً :
ــ صَدَقْتَ يَا مُعَلِّمِي ... إنَّ الشَّهَادَةَ هِيَ الحَيَاةُ تَنْتَشِي بِانْعِتَاقِهَا , وَتَفْخَرُ بِظُهُورِهَا عَلى العَجْزِ وَالخَوْفِ وَ البَلادَةِ , وَلا أحَدَ بِإمْكَانِهِ التَّجَاسُر عَلَيهَا أو التَّطَاوُل أمَامَهَا سِوَى الشَّهِِيدِ الَّذي يَسْكُنُ قَلْبَهَا وتَسْكُنُ قَلْبَهُ , لِذَا كَانَ لِزَامًا عَليهَا أنْ تُعَانِقَهُ حِينَمَا مَدََّ لَهَا ذِرَاعَيْهِ بَاسِمًا كَمَا أنَّ فِي هَجْعَة الشَّهِيدِ سَيَكُونُ المَوْتُ حَيَاةً لَنَا غَيْرَ أنَّ مَوْتَهُ حَيَاةٌ وحَيَاتَنَا مَمَاتٌ .
وَمَا هِيَ إلا لَحَظَاتٌ حَتَّى أظْلمَتْ الدُّنَْيَا أمَامَ نَاظِرَيَّ مَرَّةً أخْرَى , وَلمْ أسْتَطِعْ مَعْرِفَةَ سِرِّ هَذَا الانْقِبَاضِ الَّذِي جَثَمَ عَلى صَدْرِي بَغْتَةً , لكِنِّي رَغمًا عَن كُلِّ مُعَانَاتِي تَجَشَّمْتُ الصَّبْرَ مَا اسْتَطَعْتُ ,لأَعْرِفَ أخِيرًا أنَّ اليَأسَ مِنَ الفِرَارِ قَدْ اسْتَبَدَّ بِي لَكِنَّ صَدَى صَوْتِ مُعَلِّمِي الأجَشَّ بَلَغَ مَسَامِعِي مِنْ جَدِيدٍ كَانَ يَهْمِسُ بِمَا قَالهُ جِبرَان ذَاتَ يَوْمٍ :<< فِي قَلْبِ كُلِّ شِتَاءٍ رَبِيعٌ يَخْتَلِجُ , وَوَرَاء نِقَابِ كُلِّ لَيْلٍ صُبْحٌ يَبْتَسِمُ >> .
إذْ ذَاكَ نَفَّسْتُ عَن كُلِّ مَا اعْتَرَانِي مِن قَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ وَحُزْنٍ فِي تَنْهِيدَةٍ طَوِيلَةٍ , لأُطَمْئِنَ أشْوَاقِي التِّي ضْطَرَمَتْ فِي قَلبِي وَالَّتي أتََى لَهَبُهَا عَلى كُلِّ وِجْدَانِي , لقَدْ كَادَتْ ثِقَتِي بالله تَنْكَسِرُ كَزُجَاجَةٍ لَوْلا التَّنهِيدَةُ الَّتي رَدَّتْ لِي صَوَابِي .
بَعْدَ حِينٍ أجْهَشْتُ بِالبُكَاءِ تَارَةً أخْرَى , وَغَصَّتْ نَفْسِي بِالحَسَرَاتِ عَلى الفِرْدَوْسِ التِي سُحِبَتْ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيَّ المُرْتَعِشَتَينِ وَكِدْتُ اخْتَنِقُ إلاََّ أنَّ أصْوَاتَ رفَاقِي الأسْرَى المُتَسَلِّلَةَ عَبْرَ النَّافِذَةِ الصَّغِيرَةِ جِدًّا أرَدَّتْ لِي كَامِلَ آمَالِي وَأحْلامِي , لقَدْ كَانُوا يُرَدِّدُونَ :<< الجُوعُ وَلا الرُّكُوعُ.الجُوعُ ولا الرُّكُوعُ >> , حِينَهَا فَقَطْ عَلِمْتُ أنَّ مَصَارِعَ الجِهَادِ وَالشَّهاَدَةِ مَفْتُوحَةٌ أمَامَ الجَمِيعِ إلاَّ مَنْ أبَى . - انتهى -
بقلم الشاعر و الأديب الجزائري عبد الباسط فرجان .