كثيرات سكنَّ وحيدات بحكم الظروف، بعيداً عن أهليهن، في منازل، إن لم تضق جدرانها فيهن ضاقت أقاويل الناس ونظراتهم بهن، وربما سلوكهم نحوهن أيضاً ، بين شكّ واتهام وبين ألفاظ وتصرفات مباشرة نحوهن.. وكلّ هذا تحت عبارة "شفتوها.. هي ساكنة لحالها!!".و كلّ فتاة "ساكنة لحالها" قد تنالها كلّ أو بعض الأقاويل التي اعتاد بعض الناس أن يلفقها عليهن، وإن لم نشمل جميع الساكنات فمعظمهن دخلن ضمن هذه الدائرة, دائرة اتهام المجتمع لهن ومضايقاته.. كما حدث لـ"ليلك" ابنة الخامسة والعشرين، التي حدثتنا بحرقة عن وضعها: "كيف لنا أن نقنع مجتمعاً ما برغباتنا التي قد لا تؤذي أحداً، وكيف لنا أن نردع الأقاويل والألسنة التي تنهش سيرتنا دون وجه حقّ، فقط لأننا -من وجهة نظرهم- خالفنا قاعدة لا تقترب في الحقيقة من المنطق!!.. هكذاهي حياتنا نحن الخارجات عن القاعدة، والعاصيات للعادات والتقاليد والأعراف، نحن اللاتي نرتكب الجرم بحق المجتمع.. بل وأكثر من ذلك، نحن من تندرج أسماؤنا بل وأسماء أهالينا تحت لائحة (مرتكبات ذنب يعاقب عليه قانون العرف الاجتماعي).. وكلُّ هذا لأننا نسكن وحدنا في منزل تحت ظروف فرضت علينا ذلك.
(ليلك) ليست وحدها من حشرجت فيها حرقة أقاويل المجتمع وتصرفاته، بل وربما لم تكن ممن نالت منهن يد البيئة التي تعيش فيها تماماً بعد.
(ربا) اضطرت مجبرة على ترك الدراسة الجامعية في دمشق وترك منزلها فيه، بعد أن أخذ أهل الحارة الشعبية التي سكنتها ولاسيما شبابها يتعرضون لها، إلى أن وصلت الحال إلى الأذى الجسدي، مستغلين وجودها وحدها، مبيحين لأنفسهم أيَّ تصرف بحجة "لو سائلة عن سمعتها ما سكنت لحالها".. مشكلتها الأخيرة التي لم تشأ ذكر تفاصيلها لنا، والتي تعيد ذكرى مؤلمة لها -على حد تعبيرها- كانت الحجة القوية لأهلها الذين وافقوا على سكنها لوحدها من أجل الدراسة الجامعية بعد الكثير من الجدل والمحاولات لإقناعهم بذلك .
بالمثل (تغريد) التي جاءت بنية الحصول على فرصة عمل تكفي حاجتها وأهلها أصحاب الدخل المحدود حسب قولها، عادت أدراجها عندما لم ترحمها البيئة التي سكنتها بأقاويل وتدخّل وتطفّل. وبعد عودتها أيضاً لم ترحمها بيئتها لتندرج ضمن قائمة (أصحاب السوابق). تقول تغريد: "السمعة السيئة تنالنا، أكنّا في سكن وحدنا، أم عدنا إلى بيوتنا تجنباً لأقاويل الناس عنا.. تخيَّلوا أنَّ عائلتي بدأت تلومني "عالطالعة والنازلة" بأني السبب في كل ما يقال عني وعنهم، باعتبار أنهم متهمون بـ (العائلة اللي مسيبة بناتها)".
تحت عبارة "أصحاب السوابق".. رفضت (سهر) أن يندرج اسمها ؛ تقول سهر: "أنا من قرية عاداتها وتقاليدها ترفض سكن فتاة ما وحدها حتى ضمن القرية نفسها، فكيف إن كان ذلك في إحدى المدن أو المحافظات البعيدة. عائلتي تقف إلى جانبي، لكن أقاربي وأهل قريتي بشكل عام لم يرحموني من ألسنتهم ومن القصص التي تؤلف عني، حتى أصبحت حديث القرية وشغلها الشاغل منذ السنة الدراسية الأولى لي في الشام، لكنني لن أستسلم فأقاويلهم ستبقى، سواء عدت أم لم أعد، ويصبح اسمي "هي يلي كانت عايشة لحالها..!". هو شعور مؤلم ويجرحني التفكير فيه لكنني مجبرة، فكفة مستقبلي ترجح على كفة الأقاويل حتماً".
إن كان المستقبل أو المجتمع في كفتي ميزان، لرجحت إحداهما (عند سهر) من أجل مستقبلها؛ أما (أليسار) فلم تعر كلَّ هذا اهتمامها، متابعة سنوات الدراسة الجامعية من دون أن تصغي لمن حولها؛ تقول أليسار: "أينما كنا قد تنالنا ألسنة الناس؛ فوقوف عائلتي إلى جانبي أعطاني القوة، كما منحني الثقة، فمنحت نفسي قوة الشخصية واللامبالاة بمن حولي لأني أثق بنفسي".
بين نارين يعشنَ؛ نار يشعلها أهل البيئة التي سكنتها فتاة ما، ونار تشعلها بيئتها الأصلية وتحرق راحة بالها كما تحرق سمعتها في أحيان كثيرة دون رحمة أو بيّنة.. هو أمرٌ حرَّمته الديانات السماوية، أي الإساءة للآخرين دون وجه حقّ، ولكن بسبب ظنون وأفكار بيئة نسيت أنَّ العيب ليس بفتاة سكنت وحدها تحت ظروف معينة، وإنما العيب في من آذى غيره ظلماً.
.. حقيقة عانتها (ليندا ) ابنة الأربعة والعشرين عاماً، حين توفي والدها، فاضطرت لإعالة أسرتها المكونة من أمها وأختيها وشقيق شاب عاطل عن العمل وعمله الوحيد مراقبة أخته، التي خرجت عن الأعراف والتقاليد بنظره. تضيف ليندا: "أن أعيش وحدي في العاصمة من أجل أن أعيل عائلتي خطأ، ولكن أن أعيل أخي العاطل عن العمل أمر غير مهين..هكذا هو مجتمعنا لا يرحمك الغريب فيه ولا حتى القريب".
سكن الفتيات وحدهن في منزل بعيد أوقريب من العائلة أمرٌ مرفوض عند الكثيرين، ولكن جيهان (23 عاماً) لم تعانِ -على حد قولها- من أيّ مضايقات منذ دخولها الجامعة؛ تقول جيهان: "طبيعة البيئة التي نسكن فيها هي التي تحدّد تقبلها أوعدم تقبلها؛ فأهل الحيّ الذي أسكنه يحترمونني، وحتى جيراني يعاملونني أفضل معاملة، رغم أنَّ البعض منهم من عائلات محافظة، لكنني أرى أنَّ الفتاة غالباً ما تكون هي من تفرض احترام الناس لها؛ فبعضهن -وليس الجميع طبعاً- يأتين من بيئة منفتحة إلى بيئة منغلقة، ويتصرفن على أساس البيئة التي يعشن فيها، ومن الطبيعي أن يواجهن هذا الانتقاد.
الحلّ بالنسبة للشابة ديمة، التي توافق جيهان رأيها، يكمن إما في عدم الإصغاء إلى الناس، أو الرضوخ لعرفهم وتقاليدهم، بدءاً من طريقة اللبس حتى الوقت الذي تعود فيه إلى بيتها واستقبالها لضيوفها حتى تتجنب القدر الأكبر من اعتراض من حولها.
وتقول منال: "حاولت مراعاة المجتمع لكنه لم يرحمني مطلقاً. أريد أن أحيا كما أشاء ضمن الحدود طبعاً.. وعندما لم أجد الفائدة من مراعاة الحي الذي أسكنه، بدأت أعيش كما يحلو لي، ولم أعد إلى مدينتي لأنني أعلم أنهم لن يرحموني أبداً، فالأفضل أن أحيا هنا إلى ما شاء الله".
(نور -21 عاماً) تسكن المدينة الجامعية، همها ثقل حتى كاد يجعلها تتراجع عن البحث عن مستقبلها؛ تقول نور: "لستم بحاجة لأحدثكم عما يقال عن طلاب وطالبات المدينة الجامعية.. فهو المكان الأكثر تداولاً على ألسنة الناس، وسبب ذلك وجود بعض الفتيات اللواتي لا يحترمن الأخلاق والتقاليد الشرقية، واللواتي جئن لا ليتعلمن بل ليعشن حريتهن المفرطة بعيداً عن أعين أهلهن. والظلم يشمل الجميع هنا، فإن كان هناك فتيات سيئات السمعة فهذا لا يعني أنَّ الجميع مثلهن، إلا أنَّ "التفاحة المعفنة تفسد السحارة كلها" على قول عمتي التي تكرّر هذه المقولة دائماً أمامي . و لكنَّ ظروفي لا تسمح لي بأن أستأجر حتى غرفة خارج المدينة الجامعية.
بالمثل رشا تقول: "لا يكفي أنَّ السكن الجامعي أشبه بغرفة لحفظ الأعلاف، لنجد أيضاً ألسنة الناس تتناولنا بسبب تصرفات بعض سيئات السمعة، اللواتي يحملن هذه الصفات، إن كنّ هنا أو في بيوت أهلهن. وهذا ليس فقط في المدينة الجامعية، فهناك بعض الفتيات اللواتي يسئن لأنفسهن، مستغلات غياب الأهل، فتعمّم الصفة على كل الساكنات وحدهن. كل هذا يفتح شهية الرجال، معتبرين كل فتاة تسكن وحدها قابلة للأخذ والعطاء، وهي بنظرهم (لا تهمها سمعتها)".
\انعتاقُ الكثيرات من سيطرة الأهل وأخذهن حريتهن في سكنهن، سواء كانت الحرية ضمن الحدود أم حرية مفرطة ، جعل السمعة السيئة تنالهن، ليتسلط عليهنَّ ظلم المجتمع، ويحيطهن كما يحيط غيرهن ممن يحاولن بأقصى طاقة الحفاظ على السمعة.. إلا أنَّ المدينة الجامعية والأقاويل التي تنال ساكنيها باتت تحمل طابعاً وصفة تحتاج فانوساً سحرياً يغيّرها، ومعجزة ثامنة تقنع الناس بأن ليس كلّ من دخل المدينة الجامعية هو سيئ، وأيضاً ليست كل من سكنت وحدها هي "فلتانة" كما يقال عنها